فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{يا أيها الذين ءامنُواْ قُواْ أنفُسكُمْ}
بتركِ المعاصِي وفعلِ الطاعاتِ {وأهْلِيكُمْ} بأنْ تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكُم وقرئ {أهلُوكم} عطفا على واو {قُوا} فيكون أنفسكُم عبارة عن أنفسِ الكلِّ على تغليبِ المخاطبين أي قُوا أنتُم وأهلُوكم {أنفسكُم نارا وقُودُها الناس والحجارة} أي نارا تتقدُ بهما اتقاد غيرِها بالحطبِ وأمر المؤمنين باتقاءِ هذه النارِ المعدةِ للكافرين كما نصّ عليهِ في سورةِ البقرةِ للمبالغةِ في التحذيرِ {عليْها ملائكة} أي تلي أمرها وتعذيب أهلِها وهم الزبانيةُ {غِلاظٌ شِدادٌ} {غلاظُ} الأقوالِ {شدادُ} الأفعالِ أو {غلاظُ} الخُلقِ {شدادُ} الخلقِ أقوياءُ على الأفعالِ الشديدةِ {لاّ يعْصُون الله ما أمرهُمْ} أي أمرهُ على أنّهُ بدلُ اشتمالٍ من {الله} أو فيما أمرهُم بهِ على نزعِ الخافضِ أي لا يمتنعُون من قبولِ الأمرِ ويلتزمونهُ {ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} أي ويؤدون ما يُؤمرون بهِ من غيرِ تثاقلٍ ولا توانٍ. وقوله تعالى: {يا أيها الذين كفرُواْ لا تعْتذِرُواْ اليوم} مقول لقول قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ أي يُقال لهِم ذلك عند إدخالِ الملائكةِ إياهم النار حسبما أُمروا بهِ {إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون} في الدُّنيا من الكفرِ والمعاصِي بعد ما نُهيتُم عنهُما أشدّ النّهي وأُمرتم بالإيمانِ والطاعةِ فلا عذر لكُم قطعا.
{يا أيها الذين ءامنُواْ تُوبُواْ إِلى الله توْبة نّصُوحا} أي بالغة في النصحِ وُصفتْ التوبةُ بذلك على الإسنادِ المجازِي وهو وصفْ التائبين وهو أنْ ينصحُوا بالتوبةِ أنفسهُم فيأتُوا بها على طريقتِها وذلك أن يتوبُوا عن القبائحِ لقُبحِها نادمين عليها مغتمين أشدّ الاغتمامِ لارتكابِها عازمين على أنّهم لا يعودون في قبيحٍ من القبائحِ موطِّنين أنفسهُم على ذلك بحيثُ لا يلويهم عنه صارفٌ أصلا. عن علي رضي الله عنهُ: أنّ التوبة يجمعها ستةُ أشياءٍ: على الماضِي من الذنوبِ الندامةُ وللفرائضِ الإعادةُ وردُّ المظالمِ واستحلالُ الخصومِ وأن تعزم على أنْ لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعةِ الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعةِ كما أذقتها حلاوة المعصيةِ. وعن شهرِ بنِ حوْشب أنْ لا يعود ولو حُزِّ بالسيفِ وأُحرق بالنّارِ، وقيل نصوحا من نصاحةِ الثوبِ أي توبةٌ ترفُو خروقك في دينك وترمُّ خلّك وقيل خالصةٌ من قولهم عسلٌ ناصحٌ إذا خلص من الشمعِ. ويجوزُ أنْ يراد توبة تنصحُ الناسُ أي تدعُوهم إلى مثلِها لظهورِ أثرِها في صاحبِها واستعمالِه الجدّ والعزيمة في العملِ بمقتضياتِها وقرئ {توبا نصوحا}، وقرئ {نُصوحا} وهو مصدرُ نصح فإنّ النُّصح والنُّصوح كالشكرِ والشُكورِ أي ذاتُ نصوحٍ أو تنصحُ نصوحا أو توبُوا لنصحِ أنفسِكُم على أنّه مفعولٌ له {عسى ربُّكُمْ أن يُكفّر عنكُمْ سيئاتكم ويُدْخِلكُمْ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار} ورودُ صيغةِ الإطماعِ للجريِ على سننِ الكبرياءِ والإشعارِ بأنّهُ تفضُلٌ والتوبةُ غيرُ موجبةٍ له وأن العبد ينبغِي أن يكون بين خوفٍ ورجاءٍ وإنْ بالغ إقامةِ وظائفِ العبادةِ.
{يوْمٌ لاّ يُخْزِى الله النبى} ظرفُ لـ: {يدخلكُمْ} {والذين ءامنُواْ معهُ} عطفٌ على {النبيِّ} وفيهِ تعريضٌ بمن أخزاهُم الله تعالى من أهلِ الكفرِ والفسوقِ واستحمادٌ إلى المؤمنين على أنّ عصمهُم من مثلِ حالِهِم وقيل هو مبتدأٌ خبرُهُ قوله تعالى: {نُورُهُمْ يسعى بيْن أيْدِيهِمْ وبأيمانهم} أيْ على الصراطِ وهو على الأولِ استئنافٌ أو حالٌ وهذا قوله تعالى: {يقولون} إلخ وعلى الثاني خبرٌ آخرُ للموصولِ أي يقولون إذا طُفئ نورُ المنافقين {ربّنا أتْمم لنا نُورنا واغفر لنا إِنّك على كُلّ شيء قدِيرٌ} وقيل يدعون تقربا إلى الله مع تمامِ نورِهِم وقيل تتفاوتُ أنوارُهُم بحسبِ أعمالِهِم فيسألون إتمامهُ تفضُّلا وقيل السابقون إلى الجنةِ يمرون مثل البرقِ على الصراطِ وبعضُهم كالريحِ وبعضُهُم حبْوا وزحفا وأولئك الذين يقولون {ربنا أتمم لنا نورنا}.
{يا أيها النبي جاهد الكفار}
بالسيفِ {والمنافقين} بالحجّةِ {واغلظ عليْهِمْ} واستعملِ الخشونة على الفريقينِ فيما تجاهدهُما من القتالِ والمحاجّة {ومأْواهُمْ جهنّمُ} سيرون فيها عذابا غليظا {وبِئْس المصير} أي جهنمُ أو مصيرُهُم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يأيُّها الذين ءامنُواْ قُواْ أنفُسكُمْ}
بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه {وأهْلِيكُمْ} بأمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن معاصيه {نارا وقُودُها الناس والحجارة} أي نارا عظيمة تتوقد بالناس وبالحجارة كما يتوقد غيرها بالحطب، وقد تقدّم بيان هذا في سورة البقرة.
قال مقاتل بن سليمان: المعنى: قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة.
وقال قتادة، ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم.
قال ابن جرير: فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب، ومن هذا قوله: {وأْمُرْ أهْلك بالصلاة واصطبر عليْها} [طه: 132] وقوله: {وأنذِرْ عشِيرتك الأقربين} [الشعراء: 224].
{عليْها ملئِكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ} أي: على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها، غلاظ على أهل النار شداد عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم؛ لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه، وحبب إليهم تعذيب خلقه، وقيل: المراد غلاظ القلوب: شداد الأبدان، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال، وقيل: الغلاظ: ضخام الأجسام، والشداد: الأقوياء {لاّ يعْصُون الله ما أمرهُمْ} أي: لا يخافونه في أمره، و{ما} في {ما أمرهُمْ} يجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف، أي: لا يعصون الله الذي أمرهم به، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: لا يعصون الله أمره على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف، أو على تقدير نزع الخافض، أي: لا يعصون الله في أمره {ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} أي: يؤدّونه في وقته من غير تراخ لا يؤخرونه عنه ولا يقدّمونه.
{يأيُّها الذين كفرُواْ لا تعْتذِرُواْ اليوم} أي: يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم {إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون} من الأعمال في الدنيا، ومثل هذا قوله: {فيوْمئِذٍ لاّ ينفعُ الذين ظلمُواْ معْذِرتُهُمْ ولا هُمْ يُسْتعْتبُون} [الروم: 57].
{يأيُّها الذين ءامنُواْ تُوبُواْ إِلى الله توْبة نّصُوحا} أي: تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه، وصفت بذلك على الإسناد المجازي، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب، وترك المعاودة له.
والتوبة فرض على الأعيان.
قال قتادة: التوبة النصوح الصادقة، وقيل: الخالصة.
وقال الحسن: التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره.
وقال الكلبي: التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والاطمئنان على أن لا يعود.
وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة.
قرأ الجمهور: {نصوحا} بفتح النون على الوصف للتوبة، أي: توبة بالغة في النصح، وقرأ الحسن، وخارجة، وأبو بكر عن عاصم بضمها، أي: توبة نصح لأنفسكم، ويجوز أن يكون جمع ناصح، وأن يكون مصدرا يقال: نصح نصاحة ونصوحا.
قال المبرّد: أراد توبة ذات نصح {عسى ربُّكُمْ أن يُكفّر عنكُمْ سيئاتكم ويُدْخِلكُمْ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار} بسبب تلك التوبة، وعسى وإن كان أصلها للإطماع، فهي من الله واجبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، {ويدخلكم} معطوف على {يكفر} منصوب بناصبه، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرئ بالجزم عطفا على محل {عسى}، كأنه قال: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم {يوْمٌ لاّ يُخْزِى الله النبى} الظرف متعلق بـ: {يدخلكم}، أي: يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي {والذين ءامنُواْ معهُ} والموصول معطوف على {النبي}، وقيل: الموصول مبتدأ، وخبره: {نُورُهُمْ يسعى بيْن أيْدِيهِمْ وبأيمانهم} والأوّل أولى، وتكون جملة {نُورُهُمْ يسعى} في محل نصب على الحال، أو مستأنفة لبيان حالهم، وقد تقدّم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط، وجملة {يقولون ربّنا أتْمم لنا نُورنا واغفر لنا إِنّك على كُلّ شيء قدِيرٌ} في محل نصب على الحال أيضا، وعلى الوجه الآخر تكون خبرا أخر، وهذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، كما تقدّم بيانه وتفصيله.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {قُواْ أنفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا} قال: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهلكم بالذكر ينجكم الله من النار.
وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: أدّبوا أهليكم.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب، يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح، قال: أن يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبدا.
وأخرج أحمد، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التوبة من الذنب أن يتوب منه، ثم لا يعود إليه أبدا»، وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ضعيف، والصحيح الموقوف، كما أخرجه موقوفا عنه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: التوبة النصوح تكفر كلّ سيئة، وهو القرآن، ثم قرأ هذه الآية.
وأخرج الحاكم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى} الآية قال: ليس أحد من الموحدين إلاّ يعطى نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول: {ربّنا أتْمم لنا نُورنا}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال التستري:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ توبوا إِلى الله توْبة نّصُوحا} [8]
قال: التوبة النصوح أن لا يرجع، لأنه صار من جملة الأحبة، والمحب لا يدخل في شيء لا يحبه الحبيب.
وقال: علامة التائب أن لا تقله أرض ولا تظله سماء إلا هو متعلق بالعرش وصاحب العرش، حتى يفارق الدنيا، ولا أعرف في هذا الزمان أقل من التوبة، إذ ليس منا أحد أتاه ملك الموت إلا ويقول: دعني أفعل كذا وكذا، دعني أتنفس ساعة.
ثم قال: إن التائب المخلص ولو مقدار ساعة، ولو مقدار نفس واحد قبل موته، يقال له: ما أسرع ما جئت به صحيحا، وجئنا حيث جئت.
قوله: {يوْم لا يُخْزِى الله النبي} [8] قال: لا يخزيه في أمته، ولا يرد شفاعته.
ولقد أوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحببت جعلت أمر أمتك إليك.
فقال: «يا رب أنت خير لهم مني».
فقال الله تعالى: «إذا لا أخزيك فيهم».
قوله عز وجل: {يقولون ربّنآ أتْمم لنا نُورنا} [8] فقال: لا يسقط الافتقار إلى الله عزّ وجلّ عن المؤمنين في الدنيا ولا في العقبى، هم في الجنة أشد افتقارا إليه، وإن كانوا في دار العز والأمن والغنى لشوقهم إلى لقائه، {يقولون ربّنآ أتْمم لنا نُورنا} [8] وارزقنا لقاءك، فإنه منوّر الأنوار وغاية الطلاب.
والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.